الانتحار .. حلٌ دائم لمشكلةٍ مؤقتة

بلغة الأرقام، ينتحر شخصٌ كل ٤٠ ثانية حول العالم. ولكلٍ من أولئك المنتحرين دوافعهم وأسبابهم التي أوصلتهم لإنهاء حياتهم “طوعاً”. ـ

هناك انتحار مدفوع بتفكير فلسفي، شوبنهاوري، يرى في الانهاء الطوعي للحياة حقاً من حقوق الفرد وتعبيراً عن اختيار الحرية المطلقة والانعتاق من قيود الواقع. قد يكون ذلك بالفعل التعبير الأعلى عن الحرية الفردية، لكنه القرار الأسوأ والأكثر جحوداً، وقد عبّر الوجوديون عن ذلك باستفاضة، فسؤال الانتحار مركزي بالنسبة لهم، فإن لم تكن مؤمناً بإله ولا تتبنى قضيةً ولا تلتزم بتمثّل حريتك كاملةً ولا تتحلى بالمسؤولية فما الذي يمنعك من الانتحار؟

ليست الحرية المطلقة غاية نهائية، بل السعادة والرضى. نحن لا نعلم على وجه الدقة من أين أتينا ولا أين سينتهي بنا المطاف بعد الموت، لكن بين أيدينا واقع ملموس، هو كل ما لدينا لنعيشه ونفكر به. فهذه الحياة هبةٌ وفرصةٌ لاختبار العالم عبر الإحساس والإدراك. تلك التجربة المدهشة تستحق الخوض، ولو كان علينا الإذعان لقصور حريتنا. تلك الفرصة تستأهل العرفان في كل لحظة، خاصة ممن لا يشغلهم الألم بشكلٍ كاملٍ عن رؤية جمال الحياة واختبار مُتعة تنَشُّقِ الهواء وتلمُّس الماء والنَّظرِ للسماء

أما الانتحار المدفوع بالرغبة لإنهاء الألم الجسدي أو النفسي فذلك هو النمط الشائع ويحتاج لتعاطف وتفهّم ومعالجة مختلفة. قيل في هذا النوع من الانتحار: حلٌ جذري دائم ونهائي لمشكلة مؤقتة. لكن ما ندركه نحن البعيدون كشيء أو ظرف مؤقت، لا يبدو كذلك لمن سيُقدم على الانتحار، ولو بدى له غير ذلك لما انتحر

أخلاقياً ومنطقياً، الإنهاء الطوعي للحياة هو بالتأكيد خطأ فادح لمن هم بعيدون عن الشخص، لكن يجب أن لا يغيب عن ذهننا أن أحداً لن يقدم على إنهاء حياته دون أن يكون قد قاسى الويلات بعد أن فشل في تحصين نفسه عقلياً ونفسياً واجتماعياً ليستوعب قوانين الحياة وشروطها وما قد يصاحبها من ألم، ودون أن يمتلك المقدرة على تجاوز ذلك الألم وتحدي توقعات المجتمع. ذلك يحتاج لبنية نفسية متماسكة ونشأة سليمة وبيئة اجتماعية داعمة، أو على الأقل غير هدامة ومقيِّدة. القلق والتوتر وغياب الهدف أو الدافع وعدم القدرة على رسم خارطة طريق نحو واقع أفضل وغياب مصادر الدعم والتوجيه يقود الشخص إلى حلقة من اللامبالاة والعدمية والسوداوية تجعل منه في النهاية فريسة سهلة لوحش اسمه الاكتئاب يهيمن على تفكيره وعلاقاته وقد يدفعه أحياناً لإنهاء حياته

في شأن متصل، تقول الإحصائيات الصحية في بريطانيا أن الانتحار هو المسبب الأول لوفاة الرجال دون سن الخمسين. وعموماً أكثر من ثلاثة أرباع المنتحرين ذكور. تفاوت النسب بين الجنسين عائد لإقدام الرجل على تحميل نفسه الكثير من الضغوطات ومراكمتها، خاصة في فترة تكوين الأسرة وزيادة الدخل للإيفاء بالالتزامات. أضف لذلك أن معظم الرجال يفضلون عدم مشاركة همومهم ومخاوفهم مع الآخرين ويكتفون بالتقوقع ومحاولة حل المشكلة لوحدهم أو طمرها، انسجاماً مع صورةٍ نمطيةٍ يعززها المجتمع تفرض على الرجال إظهار القوة والتماسك في كل لحظة والابتعاد عن التعبير عن حالتهم النفسية والعاطفية وصحتهم العقلية مع الآخرين. هذه الصورة النمطية عابرة للأعراق والأديان لكنها أكثر وضوحاً في المجتمعات العربية

لكن حتى عندما يبحث الرجال عن مصدر دعم نفسي واجتماعي غالباً لا يجدون من هم ثقة ومؤهلون وقريبون كفاية لتقديم الدعم والمساعدة اللازمة. فتغيير المهنة ومكان الإقامة بشكل متكرر وضغط العمل، خاصة في المدن الكبيرة، يزيد من صعوبة إقامة صداقات متينة وبناء شبكات دعم اجتماعي مستقرة

نحن المهاجرون والمهجّرون من بلادنا نعيش في هذه المجتمعات، ونخضع لما فيها من شروط ونتعرض لما يتعرض له غيرنا، فبالتالي علينا مواجهة تحدي العزلة والاكتئاب والانتحار. وكوننا قادمون من بيئةٍ اجتماعيةٍ تولي اهتماماً كبيراً للصداقة والجيرة والروابط الأُسريَّة، عبء العزلة علينا أثقل، فسقف توقعاتنا واحتياجاتنا الاجتماعية أعلى منه لدى غيرنا. ومعظمنا ليس لديهم دراية بالأنظمة الصحية ووسائل الدعم النفسي التي تقدمها الدول الغربية لمواطنيها

أخيراً، هناك دائماً من يعاني بصمت، وهناك من لا تعي اكتآبها، وهناك من هو أسير الإدمان، وآخرٌ أدمنَ الكتمان. فاسألوا عن أحوال بعضكم، مرة، واثنتين، وأكثر، وخذوا نَفَساً عميقاً قبل أن تُعطوا حلولاً وإجاباتٍ وملاحظات. فقط أنصِتوا باهتمامٍ وفضولٍ وتفهُّم، واخلقوا مساحاتٍ صغيرة آمنة ينبت فيها الأمل، وكونوا حقيقيين

Leave a comment